ميزان الاعتدال في دعوة الاسلام

ميزان الاعتدال في دعوة الاسلام

التطرف لغة : الوقوف في الطرف ، بعيدا عن الوسط ،

وان كان المعنى الاصلي يشير الى الماديات ، الا انه يستخدم في المعنويات

كالاشارة الى الموقف البعيد عن الوسطية في الفكر والسلوك والدين.

ومن البديهي ملاحظة تصور الوقوف على طرف المسائل سواء كانت مادية او معنوية ،

فهي اقرب الى التهلكة ،

في حين ان يسهل تصور حال الامان واعتدال الميزان عند الوقوف في الوسط .

ولقد ذخرت النصوص الاسلامية في المعاني التي تدعو الى الوسطية وتنبذ التطرف ،

وان تعددت الالفاظ الدالة ، فالوسطية بالمفهوم الاسلامي منهج وردت مسمياته بالفاظ :

الصراط المستقيمم ، الوسط ، العدل ،

فيما التطرف حمل المسميات: الغلو ، التنطع ، التشديد.

وفي الاستدلال، قوله تعالى:

وَكَذَٲلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةً۬ وَسَطً۬ا لِّتَڪُونُواْ شُہَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدً۬اۗ ..._البقرة 143

قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡڪِتَـٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِى دِينِڪُمۡ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٍ۬ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ ڪَثِيرً۬ا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ (٧٧).المائدة

وفيما رواه الامام احمد في مسنده والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه

ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اياكم والغلو في الدين ، فانما هلك من قبلكم بالغلو في الدين".

وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" ، قالها ثلاثا .

وروى ابو يعلى في مسنده عن انس بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول

" لا تشددوا على أنفسكم ، فيُشَددُ عليكم ، فان قوما شددوا على انفسهم ، فشُدِدَ عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات : رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .

والاسلام منهج وسط في كل مناحي الحياة : في التصوروالاعتقاد ، كما في التعبد والتنسك

،كما في الاخلاق والسلوك كما في المعاملة والتشريع.

وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع الى الغلو

وانكر على من بالغ من الصحابة في التعبد والتقشف بما يخرجه عن حد الاعتدال

الذي جاء به الاسلام .

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ان ناسا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم سالوا ازواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ،

فكأنهم تقالوها (أي عدوها قليلة ) فقال بعضهم :لا آكل اللحم..وقال بعضهم : لا اتزوج النساء..

وقال بعضهم : لا انام على فراش ،

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ،

لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم وآكل اللحم ، واتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .

وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام منهج المسلمين في فهم الدين وتطبيقه ، وهو قمة في التوازن والاعتدال.

وللتطرف والغلو عيوب وآفات :
==================

- فهو منفر لا تحتمله طبيعة البشر العادية ولا تصبر عليه ،

ففي واقعة رواها البخاري غضب رسول الله غضبا شديدا وقال للامام "

ان منكم منفرين ..من أم بالناس فليتجوز ، فان خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة ..".

ومثل ذلك في وصيته معاذ وابي موسى حين بعثهما الى اليمن اوصاهما بقوله:

يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا"..متفق عليه.


- قصير العمر نظرا لميل الانسان الى الملل ، وقلة الصبر ، ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله:

اكلفوا من الاعمال ما تطيقون ، فان الله لا يمل حتى تملوا...وان احب العمل الى الله تعالى أدومه وان قل"..رواه الشيخان وابو داود والنسائي.


- انه لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب ان تراعى وواجبات يجب أن تؤدى ،

وكما قال سلمان رضي الله عنه لابي الدرداء : ان لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا

ولاهلك عليك حقا ، فاعط كل ذي حق حقه ...وصدقه رسول الله على ذلك .

مظاهر التطرف
=========

- التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، والجمود في الفهم جمودا لا يسمح بالرؤية

الواضحة لمصالح الخلق ولا مقاصد الشرع ولا ظروف العصر واغلاق نوافذ الحوار مع الآخرين

وموازنة ما عنده بما عندهم ، والاخذ بما يراه بعد ذلك انصع برهانا وارجح ميزانا.


- التزام التشديد الدائم رغم قيام موجبات التيسير والزام الآخرين بما يراه ،

حيث لم يلزمهم الله به، رغم ان رسول الله ما خير بين أمرين الا اختار ايسرهما ما لم يكن إثما.


- التشديد في غير المكان والزمان المناسبين ، كان يحصل ذلك في غير دار الاسلام

ومع اقوام حديثي عهد باسلام ، وخاصة في امور فرعية ومسائل خلافية.


- الغلظة والخشونة في الاسلوب وطريقة التعامل والفظاظة في الدعو ة خلافا لهداية الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.


- سوء الظن بالاخرين لادنى سبب وعدم التماس المعاذير لهم ، وربما كان ذلك لمجرد

خلاف في الراي ، ثم تلمس الاخطاء والعثرات وتضخيمها ، متبعين أثر من قال

لرسول الله يوما : ان هذه قسمة ما اريد بها وجه الله ، اعدل يا محمد فانك لم تعدل.


ان سلوك التطرف يبلغ مداه وغايته حين يُسقط عصمة الدم عن الاخرين فيبيح دمائهم

واموالهم ، ويتهمهم بالخروج عن الاسلام، وهذا يمثل قمة التطرف ،

حيث يزين لهم الشيطان سوء عملهم فيرونه حسنا ، وضل سعيهم في الحياة الدنيا

وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.

هؤلاء وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلمبقوله:

"يحقر أحدكم صلاته الى صلاتهم ، وقيامه الى قيامهم ، وقراءته الى قراءتهم ، ..

ومع ذلك قال عنهم .....يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية "..

لا شك ان التطرف بآفاته ونتائجه بات مشكلة حقيقية والمشكلة الاكبر الصاقها بالاسلام ،

ولا بد من تضافر الجهود لحل هذا الاشكال ، يتعاون في ذلك اهل الفكر والعلماء والدعاة

والحكومات ،

ولكن لا يتصور ان ينجح مجتمع في استئصال هذا المرض ان لم تتوفر لهذا المجتمع

الحرية التي جعلها الله حقا فطريا لابن آدم ،

الحرية أولا ،

وفي اطار هذه الحرية ينشط الفكر ، فلا يفل الحديد الا الحديد ،

فالحراك الفكري الحر يكفل للعلماء ولاهل الفكر الفرصة الحقيقية لمواجهة التطرف

لان منبعه الاساس ايضا فكري