بدلالة نصوص الوحي من الكتاب والسنّة وعلْم الأجنّة القديم والحديث مدعّمًا بالصور الواضحة تبين لنا وبما لا مجال للشك فيه أنّ الأطوار الثلاثة الأولى؛ النطفة والعلقة والمضغة تكون في ستة أسابيع وليس 4 أشهر، وأنّ نفخ الروح يكون بعد اكتمال التسوية والتعديل والتصوير بخلق العظام وكسوتها باللحم والجلد وخلق السمع والبصر في نهاية الأسبوع الثامن من الحمل.
ويمكن للحامل رؤية جنينها يتحرّك بوضوح على شاشة جهاز الفحص بالموجات فوق الصوتية في الأسبوع التاسع، وكحالة واقعية محدّدة -حيث أنّ الناس يقتنعون أكثر بالأخبار الواقعية المؤكّدة والدقيقة- فقد أخبرتني أختي أنها رأت جنينها في الأسبوع التاسع من الحمل على شاشة ذلك الجهاز يتحرك فيما يشبه القفز أو الرفس وتعجّبَتْ من أنّها لا تشعر بهذه الحركة، فأجابتها الممرضة بأنه أصغر من أن تشعر به. وهذه الحركة الظاهرية تحدث بواسطة العضلات الهيكلية، ومن المعلوم من الآيات 12-14 من سورة المؤمنون أنّ خلق العضلات الهيكلية (اللحم الذي يكسو العظام) يكون بعد انتهاء طور المضغة وخلق العظام.
وفيما يلي بحث (نفخ الروح) من كتاب (الفوائد الجامعة)
------------------------------------
نفخ الروح
مراحل الخلْق:
نطفة في الأسبوع الأوَّل، ثم علَقة في الأسبوع الثاني والثالث، ثم يبدأ نبض القلب في أوَّل الأسبوع الرابع ويبدأ طور المضغة إلى اليوم الأربعين من الحمل، وينقسم إلى مضغة غير مخلَّقة في الأسبوع الرابع لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يبدأ التخليق بظهور براعم اليدين والرجلين والرأس والبطن وأكثر براعم الأعضاء الداخلية مع احتفاظها بشكل المضغة، ثم تبدأ التسوية والتعديل والتصوير بخلق العظام حيث تظهر أولى مراكز التعظّم فيتصلَّب الجسم ويتخلَّق الهيكل العظمي الغضروفي ثم يُكسَى باللحم والجلد ثم يكون خلق السمع والبصر، وذلك من بداية الأسبوع السابع إلى نهاية الأسبوع الثامن، عندها تكون جميع الأجهزة الداخلية والخارجية قد تخلَّقت بأمر الله تعالى في صورة مصغَّرة، ويكون طول الجنين 3 سنتمترات بصورة بشريَّة كاملة {فتبارك الله أحسن الخالقين} ثم يستمرُّ نموّ الجنين بطيئًا حتَّى الأسبوع الثاني عشر، ثم ينمو بعد ذلك بسرعةٍ كبيرة حتَّى نهاية الحمل.
الأصل العلمي:
قال الله تعالى: {ولَقَد خلَقنا الإنسان من سلالةٍ من طين، ثم جعلناه نطفةً في قرارٍ مكين، ثم خلَقنا النطفة علقةً فخلَقنا العلقة مضغةً فخلَقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} 12-14 المؤمنون.
وقال سبحانه: {يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلَّقةٍ وغير مخلَّقة} 5 الحجّ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنَّ أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل الملَك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد} متفق عليه واللفظ لمسلم/2643.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملَكًا فصوَّرها؛ وخلَق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا ربّ؛ أذكَر أم أنثَى؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملَك، ثم يقول يا ربّ؛ أجله؟ فيقول ربّك ما شاء ويكتب الملَك، ثم يقول يا ربّ؛ رزقه؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملَك، ثم يخرج الملَك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أُمر ولا ينقص} صحيح مسلم/2645.
وفي (السنّة) قال: {إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم أربعين ليلة -أو قال: خمسةً وأربعين ليلة نُفخ فيه الروح، قال: فيجيء ملَك الرحم فيدخل فيصوّر له عظمه ولحمه ودمه وشعره وبشره وسمعه وبصره ثم يقول: أي ربّ؛ أذكر أم أنثى؟..} صحّحه الألباني في ظلال الجنة/179.
وقال: {يدخل الملَك على النطفة بعد ما تستقرّ في الرحم بأربعين -أو- خمسةٍ وأربعين ليلة فيقول يا ربّ؛ أشقيّ أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول أي ربّ؛ أذكَر أو أنثَى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تُطوَى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنقص} صحيح مسلم/2644.
وقال: {إنَّ النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصوَّر عليها الملَك -قال زهير حسبته قال: الذي يخلقها فيقول يا ربّ؛ أذكَر أو أنثَى؟ فيجعله الله ذكَرًا أو أنثَى، ثم يقول يا ربّ؛ أسويّ أو غير سويّ؟ فيجعله الله سويًّا أو غير سويّ، ثم يقول يا ربّ ما رِزْقه ما أجله ما خلقه؟ ثم يجعله الله شقيًّا أو سعيدا} صحح مسلم/2645.
الشرح:
الجمع يكون بعد تفرّق وانتشار؛ فالنطفة هي خلايا سريعة الانقسام فيما يشبه قطرة الماء، ويزيد تماسك (تجمّع) هذه الخلايا خلال هذا الطور ثم في طور العلقة ثم في طور المضغة وهي قطعة لحمية متماسكة، فعملية الجمع في الحديث الأوَّل تشمل الأطوار الثلاثة، أمَّا حرف العطف في قوله {ثم يكون علقة...} فهو معطوف على محذوف وهو النطفة، أو هو فاصل بين الإجمال والتفصيل، وقوله {في ذلك} أي في الأربعين يومًا، أمَّا قوله {مثل ذلك} فيعني أنَّ العلقة والمضغة هي من الجمع المذكور في بداية الحديث؛ أي مثل ذلك الجمع الذي بدأ في طور النطفة، وفي إحدَى روايات البخاري/ 7016 تأكيدٌ لهذا: {إنَّ خَلْق أحدكم يُجمَع في بطن أمّه أربعين يومًا وأربعين ليلة، ثم يكون علقةً مثله، ثم يكون مضغةً مثله} فالضمير هنا عاد إلى مذكَّر وهو الجمع.
وقد دلَّت الآية بوضوح على أنَّ العظام تُخلق بعد المضغة، وفي الحديث الثاني؛ يبدأ التصوير الذي يبدأ بخلق العظام بعد 42 يومًا من الحمل، وهذا ما أكَّده العِلْم الحديث. ومن الواضح في الأحاديث الثاني والثالث والرابع أنَّ كتابة (ذَكَر أو أنثَى) والكلمات الأربع تكون بعد 40-45 يومًا من الحمل، غير أنَّ الحديث الثاني أوضح أنَّ هذه الكتابة تكون بعد التصوير، وظاهر الرواية الثانية من كتاب (السنّة) يدلّ على أنَّ نفخ الروح يكون قبل التصوير بينما في الحديث الأوَّل هو مع كتابة الكلمات الأربع حيث فصل بينهما بحرف العطف (و) وهذا أظهر، وفي رواية البخاري/ 3154: {ثم يبعث الله إليه ملَكًا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقيّ أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح} وهكذا تكون الأسابيع الأولى من الحمل: نطفة ثم علَقة ثم مضغة (في 40 يومًا) ثم التصوير ثم كتابة (ذَكَر أو أنثَى) وكتابة الكلمات الأربع ونفخ الروح بعد 8 أسابيع من بداية الحمل.
وحرف العطف في قول الله تعالى {ثم أنشأناه خلقًا آخر} جاء فاصلاً بين التفصيل والإجمال الذي يشير إلى التبدّل السريع والفرق الكبير بين بداية الحمل إلى كسوة العظام لحمًا، ومن الواضح في صورة الجنين ذي الثمانية أسابيع أنَّه كائن إنساني واضح الإنسانية في استوائه واعتداله وصورته في طول 3 سنتمترات، وقد أمكن رؤية حركته بالأجهزة الحديثة عند هذا العمر والطول الجنيني {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
وماذا عن الإجماع؟
ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنّ العلماء اتفقوا على أنّ نفخ الروح لا يكون إلاّ بعد أربعة أشهر. هذا باعتبار أنّ الأربعين يومًا هي لكلّ طور من الأطوار الثلاثة (النطفة والعلقة والمضغة) وقد تبيّن لنا خطأ ذلك، أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنَّ الله تعالى لا يجمع أمَّتي على ضلالة}(صحيح الجامع) فلعلّ المقصود بالضلالة الخطأ في حكم شرعي، والخطأ هنا هو في فهم خبرٍ من أخبار الوحي، أمّا الأحكام المتعلّقة به فقد اختلف فيها العلماء.
ثم إنَّني رأيت وصفًا ذَكَرَه الحافظ ابن حجر في (الفتح) دون أن يعترض عليه: (قالوا: إنَّ المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتدّ إلى تمام ستة أيام(1) فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوطٌ خمسة إلى تمام ثلاثة أيام ثم تنفذ الدمويَّة فيه إلى تمام خمسة عشر(2) فتتميَّز الأعضاء الثلاثة ثم تمتدّ رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يومًا(3) ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجنين(4) في تسعة أيام ثم يتمّ هذا التمييز بحيث يظهر للحسّ في أربعة أيام فيكمل أربعين يومًا، فهذا معنَى قوله صلى الله عليه وسلم يجمع خلقه في أربعين يومًا وفيه تفصيل ما أجمل فيه) فتح الباري 11/481، فأقول بعد هذا إنَّ الجنين لا يمكن وصفه بالعلَقة ولا بالمضغة غير المخلَّقة بعد انفصال الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع.
أمَّا ما جاء في رواية الإمام أحمد/3553: {أنَّ النطفة تكون في الرحم أربعين يومًا على حالها لا تغيّر، فإذا مضت الأربعون صارت علقة ثم مضغة كذلك ثم عظاما} قال ابن حجر والأرنؤوط: إسناده ضعيف ومنقطع.
ولا شكّ عندي أنَّ هذا الإجماع هو لحكمة أرادها الله عزَّ وجلّ؛ ربَّما كان لمنع الإجماع على ضلالة، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
ـــــــــــــــ
(1) عند تمام طور النطفة وبداية تعلّقها بجدار الرحِم بعد 7 أيَّامٍ من بداية الحمل (الإخصاب).
(2) يعني 6+3+6.
(3) وبذلك يتمّ 27 يومًا عند نهاية طور المضغة غير المخلَّقة.
(4) هذا وصف للمضغة المخلَّقة.
وهذه صورة جنين بعد 9 أسابيع من الحملكتَبه/ محمد بن أحمد التركي – 1422