نتكلم اليوم عن نموذجين لبيتين مختلفين تمام الاختلاف في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
البيت الأول: بيت أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم:
وهو
بيت آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من إيذائه. وأبو لهب هذا هو
أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم. ونتساءل لماذا خُص أبو لهب من بين
سائر الكفار من صناديد قريش بالتوعد بالعقوبة في القرآن الكريم؟ والسبب في
ذلك هو شدة معاداته له صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير الأذية والبغض له،
والازدراء به والتنقص له ولدينه.
فمع بداية مرحلة الدعوة الجهرية، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول آية ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ ﴾
] الشعراء: 214 [، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا
نحو خمسة وأربعين رجلاً. فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، بادره أبو لهب وقال: هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة،
واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك،
وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم
العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به. فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس.
ثم دعاهم ثانية وقال: "الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ". ثم قال: "
إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم
خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون،
ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا ".
فقال
أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا
لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى
ما تحب، فامض لما أُمرت به. فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي
لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة،
خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما
بقينا.[1]
ثم
بعد أن تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلّغ
عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها
حجرًا، ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم قبيلة قبيلة.
فلما
سمعوا قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فأسرع الناس إليه،
حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو
لهب وقريش. فلما اجتمعوا أخذ يدعوهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله ،
فخص وعم. ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يُذكر عنهم أي ردة
فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال: تبا لك
سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت فيه: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد:1].[2]
أما
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ
ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول: لا
تطيعوه فإنه صابئ كذاب. وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب بأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.[3]
وقد رُوي ما يفيد أن أبا لهب كان لا يقتصر على التكذيب، بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه.[4]
ولما
بدأت قريش في التنكيل بالمسلمين، لم تستطع في بادئ الأمر الاجتراء على
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن مع استمراره صلى الله عليه وسلم في
دعوته، بدأت في مد يد الاعتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما
كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشويه والتلبيس والتشويش وغير ذلك.
وكان من الطبيعي أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رؤوس
بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام
وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم
الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش.[5]
وكان
أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة
حتى طلقاهما. ولما مات عبد الله - الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه
وسلم - استبشر أبو لهب، وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار
أبتر.[6]
كان
أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، فكان
بيته ملصقا ببيته. كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم
يؤذونه وهو في بيته. قال ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله
صلى الله عليه وسلم في بيته أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة
بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى - وكانوا جيرانه -
لم يُسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص. فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله
عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له،
حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى الله
عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: "يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟" ثم يلقيه في الطريق.[7]
ولما
أبرمت قريش قرارها بإهدار دم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أبو لهب من
بين أكابر مجرمي قريش الذين قضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة
المرسومة، بل وكان من النفر الذين اختيروا لتنفيذ تلك المؤامرة اللئيمة.
فماذا
كانت العاقبة؟! رماه الله بالعدسة[8] فقتلته!! فلقد تركه ابناه بعد موته
ثلاثا، ما دفناه حتى أنتن. وكانت قريش تتقي هذه العدسة، كما تتقي الطاعون.
حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما! ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته
لا تدفنانه؟ فقالا: إنما نخشى عدوى هذه القرحة!! فقال: انطلقا، فأنا
أعينكما عليه! فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه،
ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رجموا عليه بالحجارة.[9]
وكانت
امرأة أبي لهب - أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، والتي
سماها المسلمون أم قبيح من كثرة ما تؤذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كانت تحمل الشوك،
وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى بابه ليلاً. وكانت امرأة
سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة،
وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وصفها القرآن
بحمالة الحطب.
ولما
سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ[10]
من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغني
أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة.
ثم قالت:
مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله ، أما تراها رأتك؟ فقال: " ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني".
وروى
أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها: أنها لما وقفت على أبي بكر قالت:
أبا بكر! هجانا صاحبك. فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر
ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمُصدَّق.[11]
فماذا
كانت نهايتها؟ كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة[12] من الحسك[13] فتطرحها
في طريق المسلمين. فبينما هي حاملة ذات يوم حُزمة، إذ أَعْيَت، فقعدت على
حجر لتستريح. فجُذبت من خلفها، فهلكت. خنقها الله بحبلها!! وقيل: لما كانت
تعيّر النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من
ليف, فخنقها الله جل وعز به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار.[14]
ومما تروي لنا كتب السنة والسيرة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ ] النجم: 1